منهج مونتيسوري التعليمي
منهج المونتيسوري ماهو إلا مدخل لنصل بالمتعلم إلى أعلى مراتب التأمل في مخلوقات الله، ومساعدته على مراقبة الطبيعة من حوله وشكر الله على نعمه التي لا تحصى... فمن خلاله يكبر الطفل وهو على وعي كاف بنفسه وبالآخرين من حوله, فيحسن تقدير هذه النعم ويجتهد ليبذل المزيد من أجل خالقه سبحانه وتعالى.
تكون القاعات الدراسية فيه مقسمة إلى مناطق وفي كل منطقة حياة مختلفة للطفل, في مجملها تحتوي على مبادئ التعلم الأساسية: الملاحظة، الذاتية، والتجربة والخطأ، مع مراعاة حقوق الآخرين.
هذا المنهج يركز على ذات الطفل وقدرته على التكيف مع البيئة من حوله أكثر من تركيزه على كم المعلومات التي يختزنها في عقله الباطن رغم ما يحتويه منهج المونتيسوري من تفصيلات دقيقة قد لا نتوقع أن يعيها الطفل، وفي الحقيقة هو يفهمها ويختزلها في عقله حتى يستفيد منها عندما يحين الوقت المناسب لذلك، فالطفل كالزهرة ينمو ببطء, وبقدر العناية والاهتمام الذي يحصل عليه بقدر جمال الزهرة والتي تتضح معالمها عليه في سلوكه وأدائه.
فليس مهمًا في منهج المونتيسوري أن يثقل كاهل الطفل أو المتعلم بالواجبات المنزلية، بل الأهم أن يعرف كيف يؤدي واجبه بحب وبإقبال شديد بداخل المدرسة، ولكي نجعل المنزل مكانًا للتواصل الاجتماعي مع الآخرين من حوله، يجتهد العاملون بهذا المنهج لأن يصنعوا للمتعلم عالمًا يحبه كثيرًا, ويمده بخيارات تساعده على الحوار والمناقشة والاكتشاف والاستنتاج بناءً على رغباته وميوله بالإضافة إلى تعميق أواصر المحبة بينه وبين عائلته, فالأسرة هي أساس نجاحه وهم المحرك الإيجابي في حياته.
ولكي نُخرج نشئًا نفخر به نحتاج إلى معلم متفان ومتفهم وصبور تجاه مهنته وذي أهداف سامية، لديه القدرة على خلق جو من الهدوء والاسترخاء ليساعد الطفل على التعلم السريع والممتع
منذ كنا صغارًا ونحن نحلم بمستقبل أفضل من واقعنا، ونرسم خطط أطفال بعيدة كل البعد عن مناهجنا، فقد كان هناك فصل واضح بين المنهج الدراسي والواقع والمثالية المفترضة في المدرسة، فكأن ما درسناه لا نعمل به إن عملنا إلا في المدرسة.... هذا ناهيك أنه لدينا نفس الكتب، ونفس الطريقة في التعليم، وقد نصل كلنا إلى نفس المستوى في الظاهر، فشهادة تخرجنا واحدة إلا أن النتائج تختلف... واختلاف النتائج كان له سبب واحد تعارفنا عليه وهو أن كمية المعلومات التي حفظناها متفاوتة، وذلك يرجع لنسبة اجتهادنا في الحفظ...! وما هذه سوى اعتقادات خاطئة.
فالتعليم يرتكز على ثلاث ركائز أساسية: (الطالب، المنهج، المعلم) إلا أن المنهج يعد من أهم الركائز التي سيبنى عليه القواعد الأساسية في شخصية الطالب. ومن الصعب جدًا توحيد المناهج حسب الفئة العمرية لاختلاف فهم الطلاب وحاجاتهم وميولهم.
وتعد الست سنوات الأولى من عمر الطفل هي أساس تكوين شخصيته وميوله وتوجهاته المستقبلية، فإذا لم يحسن المربي احتواءه بشكل جيد ومناسب فإنه سينتج لنا طفلًا بلا شخصية أو متزعزع المبادئ وبلا كيان يفتقد الثقة بالنفس والقدرة على اتخاذ القرار، لا يستطيع تحمل المسؤولية.
لذا فإن «ماريا مونتيسوري» صممت منهجًا يضمن للطفل حصوله على قاعدة ثابتة وأساس متين يرتكز عليه في المستقبل.
منهج «المونتيسوري» Montessori method هو منهج يبحث عن جوانب القوة في كل طفل لينميها ويرتقي بها، كما يكتشف جوانب الضعف لديه فيعالجها بوسائل حسية تربوية مدروسة يطبق بشكل فردي حسب ميول وقدرات كل طفل، ليس هذا فحسب بل إن هذا المنهج يركز على الأخلاق كمدخل أساسي للتعليم، فما فائدة الأخلاق إذا حفظناها ورددناها دون ممارستها بشكل حسي حتى تصبح جزءًا من شخصية الطفل فينمو وهو يشعر بتوازن اجتماعي وديني دون تزعزع، وقد حرصت «ماريا مونتيسوري» على تحقيق ذلك بشتى الطرق، فهناك تمارين خاصة دقيقة يمارسها الأطفال بشكل روتيني مثل الاستئذان عند مراقبة الطفل لزميله، الاستئذان لمشاركته العمل، التحدث بصوت منخفض، العمل بحدود السجادة الخاصة بالعمل دون التعدي عن حدودها كمثال حي لاحترام حقوق الآخرين بشكل حسي ملموس، هذا بالإضافة لقوانين وضعتها «مونتيسوري» في الفصل يعمل بها الأطفال جميعهم مع المعلمة، لتعزيز العمل الجماعي ونشر الوعي بأهمية الاحترام المتبادل بينهم.
ماريا مونتيسوري
ولدت ماريا في إيطاليا سنة 1870م في مدينة شيارافال Chiaravalle لأسرة محافظة، لا تحبذ اختلاط النساء بالرجال في الأعمال المهنية، دخلت كلية الطب بجامعة روما University of Rome وخالفت التقاليد، وتخصصت فيما بعد في دراسة أمراض الأطفال وخصوصًا المعاقين منهم. تخرجت عام 1894م وعملت في التدريس في جامعة روما فاهتمت بالأنثروبولوجيا anthropology وطرائق التعليم pedagogy، كما عملت طبيبة مساعدة في مستشفى الأمراض العقلية مما جذبها إلى دراسة الأطفال أصحاب المصاعب العقلية، ونجحت في تأسيس مدرسة ترعى ضعاف العقول، واكتشفت أن لهم قابلية للتعلم الجيد. لاحظت لاحقًا أن الطرق التقليدية في التدريس من أهم أسباب التأخر الدراسي عند الأطفال.
نجحت «ماريا مونتيسوري» في أربعين سنة بنشر منهجها وعصارة تجاربها ،في العديد من الدول التي أعجبت بمنهجها وسارعت بتطبيقه في مدارسها قدر استطاعتها، وأشرفت على تأسيس برامج إعداد وتدريب المعلمين، وخلال هذه الفترة ترجمت كتبها إلى جميع اللغات العالمية الهامة.. كانت محاضراتها في دول فقيرة وغنية، فحاضرت في أوروبا وأمريكا وفي الهند وسري لانكا وأسبانيا ثم استقرت ماريا في هولندا حيث توفيت سنة 1952م.
فلسفة تعليم المونتيسوري تؤمن بأن التعليم يجب أن يكون فعالاً وداعمًا وموجها لطبيعة الطفل وحاجاته، كما أن طبيعة الطفل ليست بناءً نظريًا بل يقوم على أساس ملاحظة «ماريا مونتيسوري» لتفاصيل الطفل.
فصول / غرف االمنتسوري
لفصل الواحد يضم أطفالاً تتراوح أعمارهم بين سن 3 إلى 6 سنوات ليتعلم الأطفال التعامل مع من هم أصغر منهم سنًا فنحيي بذلك التعاون والأخوة بينهم، فلابد للفصل أن يكون معدًا خصيصًا لاحتواء هؤلاء الأطفال كأسرة واحدة متعاونة تسودها الألفة والمحبة، لذا أصبح من المهم أن نغير مسمى الفصل فيصبح «غرفة» ليشعر الطفل بالحميميّة والتقارب مع معلمته وأصدقائه في الفصل، لذلك لابد من تهيئة البيئة بشكل متكامل لتتيح للطفل كافة فرص التعلم الذاتي كما سمّته «ماريا منتسوري» التي نجحت في تجريب وسائلها على الأطفال المعاقين كما سبق أن ذكرت مما دفعها إلى تطوير وسائلها وتقنينها بشكل كبير في رفع إنتاجية الأطفال العاديين واكتشاف قدراتهم بشكل مذهل، إذ يعتمد المنهج على قاعدة الخصوصية المطلقة والفروق الفردية، فالفصل ليس مكانًا نجبر على الجلوس فيه فقط لتلقي المعلومات دون ممارستها بشكل حي، فممارسة كل ما يتلقاه الأطفال يضفي على التعليم متعة وإثارة لا مثيل لها أبدًا. فالفصل الدراسي أو الغرفة الدراسية هو مكان الطفل الخاص الذي يتعلم فيه ولابد أن يهتم به وبنظافته وترتيبه وكأنه مدينته الفاضلة التي يحرص كل من فيه أن تبقى نقية نزيهة طالما هو منبع العلوم والمعرفة بالنسبة لهم بدءًا بالمعلم وهو القدوة لممارسة الأخلاق حتى أصغر فرد فيه.
وسائل المونتيسوري
كل الوسائل في فصول المونتيسوري مبتكرة وجيدة تثير انتباه الطفل ودافعيته للتعلم والبحث والاكتشاف بشكل محبب ومناسب لسن الأطفال المتفاوت.
فهي وسائل صممت خصيصًا وبشكل دقيق جدًا يمكن للمعلم من خلالها أن يلاحظ قدرات الطفل بشكل جيد وواضح، فيمكنه تحديد الطفل المميز والطفل الذي يعاني من مشكلات أيًا كان نوع المشكلة بسيطة أو صعبة.
وكل وسيلة من هذه الوسائل تخدم هدفًا مستقلاً لكنه تابع لهدف يسبقه فيكمله لضمان تتابع تطور نمو الطفل بشكل سليم وجيد.
الغرف الدراسية مقسمة إلى مناطق:
1- منطقة الحياة العملية Practical Life: وهي منطقة قريبة جدًا من بيئة المنزل يتعلم الطفل فيها عدة مهارات نفتقد تعليمها للطفل في مناهجنا الحالية، على سبيل المثال لا الحصر: يتعلم الطفل الحمل بشتى مراحله: حمل الصينية وحمل الصينية مع مجسم من زجاج.
يتعلم الطفل أيضًا في هذه المنطقة كافة استخدامات الورق من قص وطي وتخريم وتدبيس.
كما يتعلم الطفل عدة مهارات مثل عصر البرتقال، تلميع الزجاج، تلميع الأحذية، تلميع الفضيات، العناية بالنبات، إعداد المائدة.
وكل المهارات يتعلمها الطفل بتسلسل دقيق تُدرّب عليه المعلمة مسبقًا.
2- منطقة الحواس Sensorial: وهي منطقة تحتوي على كافة الوسائل والتمارين التي تساهم في تطوير وإثراء حواس الطفل الخمس ويتعداها إلى مرحلة الإبداع في استخدام حواسه، على سبيل المثال: يقوم الطفل بعمليات التصنيف والمقارنة بين الكبير والصغير، الطويل والقصير، السميك والرفيع. يتعلم الطفل الفرق بين المر والمالح، الحلو...الخ، والفرق بين مختلف الروائح، كذلك يصنف الطفل بين مختلف الأصوات الصوت الحاد والناعم وغيره، كما يتعدى كل ذلك ليتعلم الأشكال الهندسية وتصنيفاتها وكيف أنه يمكنه صنع أشكال هندسية كبيرة من أشكال هندسية أصغر، ويمكنه كذلك الإبداع في تصميم الأشكال الهندسية.
3- منطقة الحساب Mathematics: يتعلم فيها الطفل الأرقام والقيام بالعمليات الحسابية البسيطة والصعبة بدءًا بالجمع والطرح والضرب والقسمة حتى الكسور. وكل ذلك بطريقة ممتعة وشيقة، ففي منطقة الحساب يوجد البنك الذي تعود فيه الطفل على عملية صرف الأرقام من كبيرة إلى صغير وتوزيعها على الوحدات العددية (آحاد، عشرات، مئات، ألوف).
4- منطقة اللغة Language: منطقة جميلة جدًا يتعلم الطفل فيها صوت الحرف وليس اسمه لسبب بسيط هو أنه يتعلم الحرف ليقرأ الكلمة وليس للتعريف به. وبمجرد تعلم الطفل لعدد بسيط من الأحرف يمكنه صنع كلمات بسيطة ثم كلمات أكبر... وهكذا حتى يصبح الطفل قادرًا على كتابة الكلمات وقراءتها وإملائها ومن ثم ننتقل معه بعد ذلك إلى أنواع الكلمة: اسم، فعل، صفة، حرف، بطريقة ممتعة وباستخدام مجسمات خاصة بكل فئة ويمارس ذلك عن طريق عدة تمارين.
5- منطقة الثقافة Culture: تهتم هذه المنطقة بكل ما يثري ثقافة الطفل ويساهم في جعله طفلًا مطّلعًا مستقلًا باستطاعته المناقشة والإدلاء بمعلوماته المتنوعة، ونتحدث في هذه المنطقة بصفة عامة عن العلوم والجغرافيا:
العلوم Science: على سبيل المثال: الحي وغير الحي، والحواس الخمس، وأجزاء جسم الإنسان، وأجزاء جسم الحيوانات المختلفة، بالإضافة لأنواعها والتجارب العلمية المختلفة.
الجغرافيا: Geography: على سبيل المثال: أجزاء اليابس والماء، الكرة الأرضية، القارات، الدول، الأعلام.
هذه مجمل المناطق الرئيسة الواجب توفرها في فصول المونتيسوري. وللطفل حرية الحركة في المناطق واختيار المنطقة التي يرغب العمل بها بشرط أن يكون قد عرف بالضبط طريقة العمل منذ البداية حتى النهاية لتضمن المعلمة استقلالية الطفل ومصداقية التقييم.
من أقول «ماريا مونتيسوري»
«يجب أن تهتم التربية بالمثيرات الغنية التي تؤدي إلى إشباع خبرة الطفل، إذ إن الطفل يمر بلحظات نفسية يكون استعداده العقلي فيها لتقبل المعلومات قويًا فإذا نحن تركنا هذه اللحظات تمر هباءً فمن العبث أن نحاول إعادتها إذ يكون الوقت المناسب قد مضى».
تفريد التعليم
من الجميل جدًا أن نضفي على طريقة «ماريا مونتيسوري» العالمية ما يميزنا كمسلمين، فالإسلام ثري جدًا بكل ما يضفي على المنهج التعليمي سمة مميزة، فنستغل كل ما يتعلمه الطفل ليتعرف على الخالق سبحانه وتعالى وقدرته وآياته من حولنا. فالدين هو الأساس الروحي الذي لابد أن ينطلق منه الطفل ليشعر بالأمان والاستقرار النفسي والتوازن. وكما سبق أن ذكر فإن الطفل يتعلم كل هذا بشكل فردي وبخطة تُعد له مسبقًا حسب قدراته الفردية.
الهدف الأساسي من التعليم الفردي أن يشعر كل طفل بأهميته، وبأن له وقتًا مخصصًا له وحده، ليس هذا فحسب فكما له حقوق عليه واجبات ومهام توكل للأطفال يوميًا للعناية بالغرف التعليمية، فهناك من ينظف الطاولات وهناك من يقومون بالكنس والمسح وهناك المسئول عن ترتيب الكراسي، وهناك من يعتني بالنباتات والحيوانات إن وجدت بالغرف. هذه المهام لها دور كبير ليشعر الأطفال بقيمتهم كأفراد عاملين ووجودهم يعني التغيير للأفضل. هكذا نستطيع أن ننشئ جيلاً عاملاً يقدر المسؤولية ويشعر بقيمة العمل وأهميته بالإضافة لمناسبة المنهج لكل فرد، فلا وجود للتلقين إذ لا فائدة من الترديد إذا لم يُمارس برغبة وإقبال من الطالب ....فتخيلوا معي لو أن «منهج المونتيسوري» استمر مع هذا الطفل حتى يصل إلى مرحلة الثانوية العامة كيف سيصبح جيلنا ؟!
وما هو حجم التغيير الذي سنحدثه في هذا الجيل؟!